أ. د. ليث كمال نصراوين : المقترحات النيابية وتجاوز الصلاحيات الدستورية

كشفت وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية عن مقترحات نيابية تقدم بها عدد من أعضاء مجلس النواب الحالي اتجهت نحو قضايا تنفيذية خالصة، من بينها الدعوة إلى صرف راتب شهري إضافي "محصّن" من أي اقتطاعات قبيل شهر رمضان، والمطالبة بنقل العطلة المدرسية لتتوافق مع الشهر ذاته، فضلًا عن تجميع تواقيع لطلب موجّه إلى الحكومة بتعيين أحد الأشخاص في وظيفة من وظائف الفئة العليا.
فهذه المبادرات النيابية تثير تساؤلات حقيقية حول مدى انطباقها مع الدور المنوط بممثل الأمة كما رسمه الدستور، خاصة وأنها تدخل في مساحات تنفيذية خصصها المشرّع الدستوري لمجلس الوزراء والوزراء فيه، والذين يتحملون عن ممارستها مسؤولية سياسية أمام جلالة الملك، وأخرى نيابية أمام المجلس المنتخب.
إن النظام الدستوري الأردني يقوم على توزيع محدد للصلاحيات بين السلطات، فالبرلمان يمارس مهمتي التشريع والرقابة، فيما تتولى الحكومة إدارة شؤون الدولة ومرافقها المختلفة. وهذا التوزيع ليس تنظيرًا مجردًا، بل هو الأساس الذي يُبنى عليه تحديد المسؤولية السياسية، إذ لا يُسأل النائب عن إخفاق عمل تنفيذي، ولا تُسأل الحكومة عن مبادرات لا تدخل ضمن ولايتها. ومن هنا تظهر حساسية أن يبادر النائب إلى اقتراح تأجيل العطلة المدرسية أو تقرير راتب إضافي، فهذه شؤون تدخل في صلب العمل التنفيذي الذي يختص به مجلس الوزراء والوزراء المعنيون، بما يملكونه من أدوات التخطيط المالي والإداري، وهم وحدهم الذين يتحملون مسؤولية قراراتهم أمام المرجعيات الدستورية.
ولا يخلو هذا المشهد من مفارقة لافتة، فهؤلاء النواب يدركون أن معظم المقترحات المطروحة لن يُكتب لها التنفيذ، وأن الولاية العامة في إدارة شؤون الدولة محفوظة دستوريا للحكومة. ومع ذلك تستمر المذكرات وتتوالى المطالب التنفيذية، مما يوسع فجوة الثقة بين المجلس والمواطنين، إذ تُقرأ هذه التحركات كخطوات آنية تفتقر إلى أدوات التفعيل، فيُنظر إليها كمساعٍ لا تملك القدرة على تغيير مسار السياسات أو التأثير في صنع القرار التنفيذي.
وتزداد المفارقة حين لا يتجه النواب، بعد رفض الحكومة مطالبهم، إلى محاسبتها أو مساءلتها عن البدائل التي قررتها، بل يُطوى الملف ويُستبدل بآخر، فيتعزز انطباع عام بأن الجهد النيابي ينصرف إلى ما لا يمكن تنفيذه، وأن الوقت البرلماني يُهدر في مطالب لا تملك السلطة التشريعية تحويلها إلى واقع.
ويتضح المشهد أكثر عند النظر إلى التجربة البريطانية التي تعد من أكثر التجارب البرلمانية ثباتًا ونضجًا. فعضو مجلس العموم يمارس أدواته الرقابية من سؤال واستجواب وعمل لجان، من دون أن يتدخل في التفاصيل التنفيذية التي تبقى من اختصاص الحكومة ووزاراتها. فالتقويم المدرسي من صلاحيات وزارة التعليم، ولا يملك النائب اقتراح مواعيد الامتحانات أو طبيعة العطل الدراسية، كما أن تعيين كبار الموظفين من مسؤوليات الحكومة ووزرائها، والرواتب والعلاوات من صلاحياتها وحدها، ولا يملك البرلمان فرض أعباء مالية من دون موافقتها، وذلك وفق تقليد دستوري راسخ يُعرف بمبادرة التاج في الشؤون المالية.
وعندما يرغب النائب البريطاني في التأثير في ملف تعليمي أو خدمي، يلجأ إلى أدواته البرلمانية لكشف الثغرات وتحريك الرأي العام، من دون أن يضع نفسه في موقع صانع القرار التنفيذي أو يقترح حلولًا محددة تنتمي إلى ولاية الحكومة. وبهذا تحافظ التجربة البريطانية على الحدود الوظيفية بين السلطات، وتمنح الحكومة القدرة على التخطيط والتحرك من غير تداخل يربك المسؤولية السياسية.
وعلى النقيض من هذا الاتساق الدستوري في بريطانيا، يبرز في سياقنا المحلي نمط من الممارسات النيابية التي تميل إلى تجاوز الحدود الفاصلة بين السلطات. فأسلوب "المذكرات النيابية" الذي يستند إليه بعض النواب لا يعدو أن يكون أداة للاستعلام عن الشؤون العامة، ولا ينشئ بأي حال اختصاصًا ذا طابع تنفيذي. وقد بيّنت المادة (157) من النظام الداخلي لمجلس النواب مفهوم "المذكرة النيابية" حين عرّفتها بأنها "استيضاح الأعضاء عن قضايا عامة أو أمور تتعلق بالشؤون العامة"، من دون أن ترتقي إلى مرتبة التوجيه الملزم للحكومة أو تجعل النائب شريكًا في صنع القرار التنفيذي.
وبهذا الفهم لطبيعة المذكرة النيابية وحدودها، فإن النظام الداخلي بوسائله وآلياته المختلفة لا يُعد مصدرًا لتعديل الاختصاص الدستوري، ولا يملك أن يحوّل النائب المنتخب إلى صاحب ولاية تنفيذية موازية لولاية الوزير المختص. ولذلك فإن الاستناد إلى المادة (157) لتبرير اقتراحات تتعلق بالعطلات المدرسية أو السياسات المالية أو التعيينات في الوظائف العليا يبتعد عن جوهر النص ويضعه في سياق لا يحتمله، ويخلط بين التعبير عن الرأي وممارسة الاختصاص الذي أناطه الدستور بالسلطة التنفيذية.
إن تعزيز الثقة بالمؤسسات الدستورية لا يتحقق إلا حين يمارس كل طرف دوره ضمن الحدود التي رسمها الدستور، بحيث يظل النائب مشرعا ورقيبا، وتظل الحكومة صاحبة الولاية العامة في إدارة شؤون الدولة. فالحكم الرشيد يقوم على التوازن لا على التداخل، وعلى وضوح المسؤولية لا على ازدواجها، وعلى احترام النصوص الدستورية لا على تجاوزها بمذكرات لا تحمل صفة الإلزام ولا تملك قوة القرار التنفيذي

















