+
أأ
-

الإنجاز الرياضي الأردني: دروس في اقتصاديات الإرادة ::

{title}
بلكي الإخباري

 

د. غازي العسّاف

أستاذ الاقتصاد – الجامعة الأردنية

تابعنا جميعاً المباراة النهائية المثيرة للغاية لبطولة كأس العرب 2025 والتي جمعت المنتخب الأردني مع المنتخب المغربي، والتي انتهت بفوز مغربي بواقع 3-2، كانت مباراة مميزة اختزلت قصة فريق أردني قاتل وكافح حتى اللحظات الأخيرة رغم فارق الإمكانات الهائل، وتستحق قراءة مُعمقة ليست من منظور رياضي تكتيكي بل من منظور اقتصاديات الرياضة التي تعطينا درساً غاية في الأهمية في إدارة مواردنا الاقتصادية.

من المُهم بدايةً الإشارة بأنّ المغرب الذي توّج باللقب يعيش اليوم طفرة استثمارية غير مسبوقة في قطاعه الرياضي،  فميزانية الاتحاد المغربي لكرة القدم السنوية تتراوح بين 70-88 مليون دولار، وتتأتى بشكل أساسي من عائدات الرعاية وحقوق البث ومساهمات الفيفا والاتحاد الأفريقي، كما ورصدت المغرب استثمارات تتراوح بين 5 و6 مليارات دولار للبنية التحتية الرياضية، تشمل إنشاء ملعب جديد بسعة 115 ألف متفرج وبتكلفة 500  مليون دولار، وتجديد خمسة ملاعب قائمة، إضافة الى الإنفاق الذي يمتد لتوسعة شبكة القطارات فائقة السرعة بـ9.6 مليار دولار، وتطوير 27 ميناء بـ7.5 مليار دولار. كما وارتفعت مخصصات صندوق تنمية الرياضة الوطني حيث أقر البرلمان المغربي موازنة 2026 بـ41  مليار دولار للبنية التحتية، والخطة الشاملة حتى 2030 تتضمن تعبئة أكثر من 100 مليار يورو تجهيزاً لاستضافتها لكأس العالم.

دول أخرى في المنطقة أنفقت خلال السنوات السابقة مليارات الدولارات على قطاعاتها الرياضية، فالمملكة العربية السعودية التي أقصاها المنتخب الأردني في نصف النهائي تمثل النموذج الأكثر إنفاقاً عالمياً في القطاع الرياضي، إذ ضخ صندوق الاستثمارات العامة ما يقارب 957 مليون دولار في صفقات الدوري السعودي في صيف 2023 وحده، مُحتلاً المركز الثاني عالمياً بعد الدوري الإنجليزي. علاوة على أن رواتب النجوم الأجانب في الأندية الأربعة الكبرى المملوكة للصندوق السيادي تتجاوز مليار دولار. كما أن الإمارات وقطر تسيران في الاتجاه ذاته، فالقيمة السوقية للمنتخب الإماراتي بلغت حوالي 46.4 مليون دولار لتتصدر منتخبات نصف النهائي، بينما أنفقت قطر أكثر من 200 مليار دولار على مونديال 2022.

في المقابل، الواقع الأردني مُختلف جذرياً، فالقيمة السوقية الإجمالية لمنتخب الأردن لا تتجاوز 10.2 مليون دولار، وهي الأدنى بين منتخبات نصف النهائي الأربعة. فاللاعب موسى التعمري هو الأعلى قيمة بـ7 ملايين دولار، ما يعني أن بقية اللاعبين مجتمعين لا تتجاوز قيمتهم 3 ملايين بمتوسط 660 ألف دولار للاعب. الاتحاد الأردني لكرة القدم يعتمد بشكل أساسي على دعم الفيفا عبر برنامج Forward الذي يوفر لكل اتحاد وطني نحو 8 ملايين دولار خلال الدورة الرباعية (2 مليون سنوياً)، إضافة إلى مليون دولار سنوياً للتكاليف التشغيلية، ومؤخراً أعلن رئيس الوزراء جعفر حسان مضاعفة ميزانية الاتحاد اعتباراً من 2026 بعد التأهل التاريخي لكأس العالم، مع إعفاءات ضريبية على عائدات الرعاية وحقوق البث والتذاكر، في حين أغلب لاعبي المنتخب يحترفون في الدوري العراقي أو محلياً في دوري يعاني إشكاليات هيكلية في الرواتب والاحتراف.

رغم هذا التباين الكبير بين واقع القطاع الرياضي الأردني والقطاعات الرياضية الإقليمية والعالمية، حقق النشامى خلال 18 شهراً إنجازات تاريخية متتالية: نهائي كأس آسيا 2024 للمرة الأولى، التأهل لكأس العالم 2026 للمرة الأولى، ثم نهائي كأس العرب 2025 بعد إقصاء مصر 3-0 والعراق 1-0 والسعودية 1-0، قبل خوض نهائي تاريخي أخفقوا فيه بشرف أمام المغرب وخرجوا مرفوعين الرأس بما قدموا.

اليوم تأتي التجربة الأردنية لتُثبت وبما لا يدع مجال للشك بأنّ الإمكانات البشرية لا القدرات المالية كانت العامل الحاسم والمؤثر في هذا النجاح، فاقتصادياً كان لرأس المال البشري المُدار بكفاءة الميزة الأكثر أهمية في تفوّقها على رأس المال المادي الضخم، فالإنجاز لم يأتِ من ضخ مالي، بل من استثمار مدروس في العنصر البشري: اختيار كوادر تدريبية كفؤة، بناء منظومة قيمية وروح جماعية صلبة، تعظيم العائد من كل مورد متاح، وتحويل شح الإمكانات إلى حافز للتفوق والتميّز بدلاً من تعليق الفشل عليها.

هذا تماماً ما يجب أن يوجّه وبقوّة تخطيطنا الاقتصادي الوطني، في بلد محدود الموارد الطبيعية والمالية، رهاننا الحقيقي اليوم وخيارنا الاستراتيجي الأمثل والوحيد المتاح هو الاستثمار في الإنسان الأردني: تعليمه، تدريبه، تمكينه، ومنحه البيئة المؤسسية التي تُسهم في إطلاق طاقاته الكامنة. فالكفاءة في الإدارة، وجودة الحوكمة، والقدرة على الإبداع والابتكار في حدود الإمكانات، هي الأصول الحقيقية التي نمتلكها ويُمكن أن تصنع لنا الفارق وتغيّر الأوضاع الاقتصادية التي نعاني منها اليوم. ما أثبته النشامى، بالرغم من شح الموارد المالية لديهم، أمام منافسين يملكون المليارات والإمكانات الكبيرة هو نجاح رياضي مميز في كرة القدم، وهو مسار مُلهم لنا في كل المجالات، هذا المسار هو النموذج والدرس في اقتصاديات الإرادة الذي يجب أن نستلهمه في كل قطاع اقتصادي: حين نُحسن إدارة ما نملك من طاقات بشرية، ونوظّف ونشجّع الكفاءات في كل المجالات ننجح ونتميّز ونُنافس من يملكون أضعاف ما نملك من المال والإمكانات.