رلى السماعين : سياحة رجال الأعمال

سياحة رجال الأعمال زاوية مهمة في السياحة المتكاملة التي يسعى الاردن لابرازها، فهي لسيت مجرّد رحلة قصيرة بين مطار وفندق وقاعة اجتماعات، بل تحوّلت عالميًا إلى قطاع إستراتيجي يربط بين الاستثمار، والاقتصاد، وصورة الدولة في أذهان صانعي القرار. فالرئيس التنفيذي أو المستثمر الذي يزور بلدًا لثلاثة أيام، يخرج بانطباع أعمق بكثير من جدول الاجتماعات؛ فهو ينظر إلى مستوى التنظيم، ونوعية الخدمات، والأمن، والبيئة الثقافية الثقافي في مكان تواجده.
حيث يشكّل قطاع السياحة في الأردن أحد أعمدة الاقتصاد، حيث بلغ الدخل السياحي في عام 2023 نحو 7.41 مليار دينار، مع أكثر من 6.3 مليون زائر، فإن تعزيز سياحة رجال الأعمال من الاجتماعات، والحوافز، والمؤتمرات والمعارض لم يعد ترفًا بل ضرورة لتثبيت هذا المسار التصاعدي. وقبل الجائحة كانت الإيرادات السياحية تمثّل قرابة 42% من إجمالي الصادرات الخدمية للأردن، ما يعكس وزن هذا القطاع في الميزان الاقتصادي الوطني.
دراسات متخصّصة في السياحة الأردنية تشير إلى أن الأردن يمتلك معظم المقومات اللازمة لتعزيز تنافسيته في سوق سياحة الأعمال والمؤتمرات عالميًا، من بنية تحتية فندقية متطورة، ومرافق للمعارض، إلى موقع جغرافي يربط آسيا بأفريقيا وأوروبا. كما أظهرت دراسة أكاديمية حول أثر الطلب على سياحة الأعمال والمؤتمرات على نسب إشغال الفنادق في الأردن وجود علاقة إيجابية واضحة بين هذا النوع من السياحة وارتفاع نسب الإشغال، خاصة في الفنادق الكبرى في عمّان والبحر الميت.
والأهم أن زائر الأعمال غالبًا ما يكون أعلى إنفاقًا من السائح العادي، وأكثر قابلية للعودة في زيارات لاحقة، إذا ارتبطت تجربته الأولى بصورة بلد مستقر ومنظم ومتصل بالعالم. وهذا ما لمسته بوضوح من خلال مقابلاتي مع الدبلوماسيين الذين التقيتهم داخل المملكة وخارجها، وكذلك من شهادات ضيوف الأردن الذين اكتشفوا في هذا البلد كنزًا سياحيًا، وعمقًا تراثيًا راسخًا، وثقافة مجتمعية دافئة دفعتهم إلى تكرار الزيارة، لا بصفة رسمية كما كانت الأولى، بل بزيارة عائلية تنبع من فضول حقيقي ورغبة في العودة إلى المكان.
هنا تتقدّم المملكة لتكون مرشّحة وفق «رؤية التحديث الاقتصادي» وخطط قطاع السياحة، لتصبح مركزًا إقليميًا لسياحة المؤتمرات في المشرق، بما يعنيه ذلك من إطالة مدة إقامة الزوار، ورفع نسب الإشغال، وتحفيز سلسلة واسعة من القطاعات الخدمية.
منذ سنوات، نقدم اردننا بوصفه واحة أمن واستقرار في منطقة مضطربة، وهذه ليست مجرد عبارة إنشائية، بل ركيزة تسويقية حقيقية في خطاب الدولة تجاه المستثمرين والزوار. في لقاء مع ممثلي القطاع السياحي، شدّد جلالة الملك عبد الله الثاني على ضرورة « تعظيم مكانة الأردن كواحة أمن واستقرار واستثمار الموارد المتاحة لتعزيز موقع المملكة السياحي في المنطقة والعالم»، مؤكدًا أن الأولوية اليوم هي للاقتصاد ووسائل تطوير السياحة.
هذا الخط الملكي يتقاطع مع رؤية أوسع لجذب الاستثمار، حيث يؤكد جلالته في توجيهات أخرى على أن تحسين بيئة الاستثمار ضرورة وليس خياراً للنمو وخلق فرص العمل، وأن المطلوب هو اتخاذ «خطوات فعّالة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز الاستثمارات الوطنية.» وسياحة رجال الأعمال تقع تمامًا عند هذا التقاطع.
يمكن تعزيز سياحة رجال الأعمال في الأردن عبر تبنّي مقاربة شاملة تنطلق من إعادة تعريف المملكة كوجهة مستقلة للمؤتمرات والفعاليات الدولية، لا كمجرد محطة عابرة. ويتطلب ذلك خطابًا ترويجيًا دقيقًا يستهدف الاتحادات المهنية وغرف التجارة والشركات الإقليمية والعالمية، ويعرض الأردن كحزمة متكاملة تجمع بين بنية مؤتمرات متقدمة في عمّان والبحر الميت، وتجربة سياحية نوعية تمتد إلى البترا ووادي رم، مدعومة بثقافة ضيافة أردنية راسخة. ويُستكمل هذا التوجّه بإطار تشريعي محفّز للفعاليات الكبرى، يشمل تسهيلات ضريبية مدروسة، وإجراءات مرنة لإدخال المعدات، وآليات مبسطة لمنح التأشيرات عبر منصة إلكترونية موحّدة تعكس صورة دولة منظمة وجاهزة لاستقبال الأعمال العالمية.
كما يتطلب الأمر تكاملًا حقيقيًا بين القطاعين العام والخاص، بحيث تتعاون وزارة السياحة ووزارة الاستثمار وهيئة تنشيط السياحة وغرف الصناعة والتجارة والقطاع الفندقي وشركات الطيران ضمن حملة وطنية موحّدة، وإعلام متخصص داعم لهذه الجهود كمجلة أنوفيا الاعلامية.
وإلى جانب البعد التنظيمي، يجب ربط جدول أعمال الضيوف بالذاكرة الثقافية للأردن عبر مسارات قصيرة تُصمّم خصيصًا للوفود، مثل جولة في وسط عمّان، أو زيارة مادبا وجرش، أو لحظة غروب على البحر الميت، وهي تفاصيل صغيرة تصنع أثرًا كبيرًا في ذاكرة الزائر، لان الاستثمار يأتي في التجربة الرقمية باعتباره عنصرًا حاسمًا، إذ يبحث رجال الأعمال عن سهولة الحجز ووضوح المعلومات وسرعة الرد، ما يستدعي منصّات متطورة، ومحتوى متعدد اللغات، وخدمات دعم متواصلة على مدار الساعة.
تظهر الأرقام الأخيرة أن قطاع السياحة في الأردن يتجه نحو التعافي والنمو، مع ارتفاع أعداد الزوّار والإيرادات في السنوات الأخيرة، بالرغم من التحديات الإقليمية، والفرصة اليوم هي أن يُبنى على هذا الزخم عبر تثبيت الأردن كخيار أول لرجال الأعمال والمؤتمرات في المنطقة.
سياحة رجال الأعمال هي بوابة لاستثمارات جديدة، وصورة دولية أقوى، وشبكة علاقات تمتد أبعد من مدة إقامة ضيف في فندق. والأردن، بما يملكه من قيادة واضحة الرؤية، واستقرار سياسي، وموارد بشرية مؤهلة، يمكن أن يحوّل هذه البوابة إلى جسر دائم بين الاقتصاد المحلي والعالم، إذا أحسنّا التخطيط والتسويق، وربطنا قاعة الاجتماعات بقلب المدينة وتاريخ المكان وإنسانه. حمى الله الوطن.



















