+
أأ
-

لارا علي العتوم : توازن الدولة والسياسة الهادئة

{title}
بلكي الإخباري

في ظل التحولات المتسارعة التي تعصف بالإقليم، يقف الوطن العربي عند مفترق طرق دقيق تتقاطع فيه تداعيات وارتدادات الحروب المفتوحة، وتتشابك فيه أزمات الدولة الوطنية بصعود الفاعلين غير التقليديين، فالساحة العربية تتسم بحالة سيولة استراتيجية غير مسبوقة، حيث لم تعد الأزمات محصورة في ساحات الاشتباك، بل باتت تتغذى من بعضها بعضًا.

فالحرب على غزة أعادت تثبيت مركزية القضية الفلسطينية في الوعي الجمعي العربي والدولي، لكنها في الوقت ذاته كشفت هشاشة حدود القدرة على ضبط التصعيد، وفي سوريا واليمن وليبيا والسودان، لا تزال مسارات التسوية محكومة بتوازنات السلاح أكثر من منطق الدولة، وبحسابات القوى الخارجية أكثر من الإرادة الوطنية، أما الاقتصاد العربي، فيواجه ضغوطًا مركبة من اضطراب سلاسل الإمداد، وتغير أسواق الطاقة.

ورغم ذلك التعقيد، يبرز الدور الأردني بوصفه نموذجًا مختلفًا في مقاربة الأزمات، يقوم على مزيج من الواقعية السياسية، وضبط النفس الاستراتيجي، والالتزام بثوابت قومية لم تتبدل رغم تبدل الظروف، حيث اختار جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين إدارة المخاطر بدل الانخراط في منطق التصعيد، محافظًا على توازن دقيق بين حماية أمنه الوطني والقيام بدوره الإقليمي، رغم تشابك حدود بلاده مع بؤر التوتر بحكم موقعها الجغرافي، محافظًا على خطاب واضح تجاه القضية الفلسطينية، مؤكدًا مركزية حل الدولتين، ورافضًا لأي محاولات فرض وقائع جديدة بالقوة من خلال تحركاته الدبلوماسية النشطة، إقليميًا ودوليًا، بهدف احتواء تداعيات الحرب ومنع انزلاق المنطقة، موضحًا بأن حماية الداخل لا تنفصل عن استقرار الجوار، فكانت مقاربته قائمة على دعم الحلول السياسية في سوريا والعراق، والسعي لخفض التوتر بدل إعادة إنتاجه.

نجح جلالته برؤيته وحرصه الأمني بالحفاظ على بلاده، بتحصين جبهته الداخلية بدون عسكرة سياسية، وفي بناء مؤسسة أمنية متينة تعمل ضمن إطار الدولة لا فوقها، فجعل بلاده نموذجًا لدولة تدرك حدود قوتها، وتعرف جيدًا كيف تحمي مصالحها وتدافع عن ثوابتها بدون ضجيج، حتى أصبح الأردن لدى جميع القوى العظمى حالة استثنائية في بيئة إقليمية مضطربة، فهذا الاستقرار ليس نتاج القوة الصلبة، بل نتيجة فهمه العميق لطبيعة بلاده وتوازناتها، وإدارته الواعية للتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي غالبًا ما تُشكل المدخل الحقيقي للاختراقات الأمنية.

يتحرك جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين ضمن منطق الشراكة لا الوصاية، مدركًا أن المرحلة لا تحتمل مزيدًا من الانقسامات، ولا سيما أن الوطن العربي يمر بمرحلة قاسية، تتراجع فيها اليقينيات القديمة بدون أن تكتمل ملامح البدائل الجديدة، بما فرض على دور جلالته أهمية مضاعفة، ليس بوصفه قوة إقليمية، بل لاختياره الحكمة السياسية، وعلى وجه الخصوص التنسيق العربي الذي يعتبره جلالة الملك، حتى لو أنه في حدوده الدنيا، إلا أنه ضرورة استراتيجية لا خيارًا سياسيًا.

فعلى الرغم من عدم اهتمام جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين بأن يكون دوره وتحركاته عناوين صاخبة، إلا أنه لم يستطع منع دوره من أن يكون عنصر توازن نادر في إقليم يتآكل فيه التوازن.

حمى الله أمتنا-حمى الله الأردن